عبادُ الله المُخلَصون
عبادُ الله المُخلَصون
جاء وصف (المُخلصين) في عدة مواضع من القرآن؛ مع اختلاف صيغتها بالتعريف والتنكير، والإفراد والجمع. - وورد وصف المُخلصين أيضًا في النجاة من غواية الشيطان، إذ توعد بغواية بني آدم، ثم استثنى عباد الله المخلصين! قال الله عز وجل: {قَالَ
رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ
وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)}[سورة الحجر: 39-40] - وورد وصف المُخلصين في خمسة مواضع من سورة الصافات: وقال الله عز وجل:{أَذَلِكَ
خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا
فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ
الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)
فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ
مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ
ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ
قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم
مُّنذِرِينَ (72) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ (73)
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)} [سورة الصافات: 62-74] وقال الله عز وجل:{وَإِنَّ
إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا
تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ
(125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128} [سورة الصافات: 123-128] وقال الله عز وجل:{وَجَعَلُوا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ
إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159)
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ
(162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ
مَقَامٌ مَّعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا
لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ
أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مِّنْ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ
اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)} [سورة الصافات: 158-170] فتلخص
لنا مما سبق بيانه أن من أخلص العبادة لله عز وجل فهو موعودٌ أن يصطفيه
الله عز وجل لنفسه، وأن ينجيه من السوء والفحشاء وغواية الشيطان ومن كربات
الدنيا والآخرة.
وورد في قراءة (المُخلصين) -المعرّفة بالألف واللام- في جميع القرآن، و (مُخلصا) في سورة مريم قراءتان صحيحتان:
- فقرأ عاصم وحمزة والكسائي بفتح اللام (المُخلَصين) في جميع القرآن، و(مخلَصا) بفتح اللام في سورة مريم.
- وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامربكسر اللام (المخلِصين) في جميع القرآن و (مُخلِصا) بكسر اللام في سورة مريم.
- وقرأ نافع (المُخلَصين) بفتح اللام في جميع القرآن، و(مُخلِصا) بكسر اللام في سورة مريم.
وأما ما جاء مقترنا بكلمة (الدين) فقُرئ بكسر اللام في جميع القرآن.
مثل قول الله تعالى: { فَٱدۡعُوا۟ ٱللَّهَ مُخۡلِصِینَ لَهُ ٱلدِّینَ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَـٰفِرُونَ }[سُورَةُ غَافِرٍ: ١٤]
وقراءة (المخلِصين) بكسر اللام، من أخلص يُخلص إخلاصا، وهو اسم فاعل يدل على تحقيقهم الإخلاص لله عز وجل وحده.
وقراءة (المخلَصين) بفتح اللام، من أخلص أيضا، لكنه اسم مفعول ومعناه: أن الله عز وجل أخلصهم؛ فأخلصهم لنفسه كما قال الله عز وجل لموسى عليه السلام: {واصطنعتك لنفسي}
ومن معانيها أيضا أن الله عز وجل اختصهم
بفضله ومن هذا فضل الله عز وجل على رسله بالنبوة والرسالة، وفضل الله على
عموم عباده بالإيمان والهدى والتقوى.
ومن معانيها أن الله عز وجل ينجيهم من الكربات.
ولعل الجمع بين القراءتين يفيد
أن من حقق الإخلاص لله عز وجل وحده بالعبادة ولم يشرك به شيئا؛ فهو موعود
بأن يُخلّصه الله عز وجل من كربات الدنيا والآخرة، ويصطفيه لنفسه وهذا هو
الفضل العظيم.
وبتأمل المواضع التي وردت فيها هذه المفردة، نجد دلالتها على هذه المعاني، والله أعلم.
- فجاءت في موضعين في وصف يوسف وموسى عليهما السلام:
قال الله عز وجل:
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ
رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ
عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [سورة يوسف: 24]
وفي ختام الآية بوصف يوسف -عليه السلام- بأنه من المُخلصين تعليل لصرف السوء والفحشاء عنه.
قال الله عز وجل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [سورة مريم: 51]
والمتأمل لسيرتهما -
عليهما السلام- يرى كربات كثيرة، نجاهما الله منها، فيما كان يظن أعداؤهم
أنهم كادوا يتمكنون من إهلاكهم أو إبعادهم.
قال الله عز وجل:{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [سورة ص: 82-83]
قال الله عز وجل:
{إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا
قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)
وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ (36)
بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو
الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ (42)}[سورة الصافات: 34-42]
ففي هذه الآيات استثناء منقطع.
فجاء وصف المجرمين وعملهم وما ينالهم من العذاب ثم قال تعالى: {إلا عباد الله المخلصين}
و(إلا) هنا بمعنى (لكن) أي ولكن عباد الله المخلصين لهم رزق معلوم، ثم جاءت الآيات بعدها بوصف ما وعدهم الله عز وجل من النعيم.
وفي هذا الاستثناء بيان نجاتهم من العذاب الأليم.
في هذه الآيات
استثناء لعباد الله المخلصين من (المنذَرين) الذين حلَّ بهم العذاب
لعصيانهم لرسلهم، وتدل أيضًا على نجاتهم من عاقبة المنذَرين بعذاب الآخرة
الموصوف في الآيات قبلها، وعاقبتهم بالعذاب في الدنيا.
ومعنى الآية أن الذين كذبوا نبي الله إلياس محضرون للعذاب يوم القيامة، لكن عباد الله المُخلصين ينجيهم الله عز وجل فلا يعذبهم.
أما الموضع الأول فهو بالمعنى السابق؛ أن عباد الله المخلصين ليسوا بمحضرين للعذاب يوم القيامة.
وأما الموضع الثاني
فهو حكاية عن قول المشركين؛ أنهم زعموا لو جاءهم ما جاء الأمم السابقة من
الذكر ونزل عليهم مثل ما نزل عليهم من كتب الله عز وجل لكانوا من عباد الله
المخلِصين الموحدين له العبادة، ولكانوا ممن أخلصهم الله عز وجل له، لكنهم
كذبة في زعمهم هذا لأن الله عز وجل أرسل إليهم خير الرسل محمد صلى الله
عليه وسلم، وأنزل عليهم أفضل الكتب (القرآن) ومع هذا كفروا به!
وفي هذا إيماء لنا
أن من أراد أن يكون من عبادِ الله المُخلِصين المُخلَصين فعليه باتباع ما
أنزله الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة.
والمسلم الموحد الذي أتى بأصل التوحيد، مُخلص لله عز وجل لا يشرك به في عبادته شيئا ولا يرتكب ناقضا من نواقض الإسلام، قد يقدح في كمال إخلاصه أمور منها:
الشرك الأصغر: وهو
ما لم يكن فيه صرف العبادة لغير الله عز وجل، لكن كان وسيلة للشرك الأكبر
وسُمي في النصوص شركًا، وهذا النوع من الشرك لا يخرج من الملة لكنه يقدح في
كمال الإخلاص.
ومن أمثلته التعلق بغير الله عز وجل؛ حتى
يترك فعل الواجبات ويرتكب المحرمات لأجل ما تعلق به، أو يتعلق بالأسباب
يرجو نفعها مع إيمانه بأن النفع والضر لله عز وجل. ومن أمثلته أيضا تحسين
العمل ليرائي به الناس وإن كان قد أتى بأصله لله عز وجل.
وفي الحديث عن معقل بن يسار قال: انطلقت مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: "يا أبا بكر! للشرك فيكم أخفى من دبيب النمل". فقال أبو بكر: وهل الشرك إلا من جعل مع الله إلها آخر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، للشرك أخفى من دبيب النمل، ألا أدلك على شيء إذا قلته ذهب عنك قليله وكثيره؟ ". قال: "قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم". رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني.
البدعة غير المكفرة:
والمبتدع ليس بمخلص
مهما ادّعى أنه مخلص لله في عبادته - التي أتى بها على خلاف هدي النبي صلى
الله عليه وسلم- لأنه ما ابتدع إلا اتباعا لهواه، ولو أخلص لله عز وجل لما
خالف أمره في قوله سبحانه: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}[سورة آل عمران: 31]
والخطاب بـ (قل) للنبي صلى الله عليه وسلم.
أي: إن كنتم صادقين في دعواكم بمحبة الله عز وجل فاتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم.
اللهم ارزقنا صدق الإخلاص لك في القول والعمل، واجعلنا من عبادك المُخلَصين.
التعليقات ()